الجمعة، 20 يونيو 2014

حوار مباشر بين مرجئ قديم ومرجئ معاصر


مقال جديد للشيخ عبد الحميد الجهني: حوار مباشر بين مرجئ قديم ومرجئ معاصر

--------------------------------------------------------------------------------

بسم الله الرحمن الرحيم
حوار مباشر بين مرجئ قديم ومرجئ معاصر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ,
أما بعد :
فإن أسلوب الحوار لتوضيح مسائل العلم , من الأساليب القديمة التي درج عليها العلماء , كالإمام ابن القيم رحمه الله في بعض كتبه , والشيخ العلامة عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله, في رسالة معروفة له في الفقه , جعلها حوارا بين شخصيتين وهميتين الأولى " المتوكل على الله " والأخرى " المستعين بالله " .
وجريا على هذا الأسلوب كتبت هذا الحوار لتوضيح جوانب من مسألة الإيمان التي كثر فيها الخوض في هذه الأيام . وآمل أن يطالع القارئ الكريم هذه المحاورة بعين الإنصاف وتحري الحق , لا بعين التعصب , فإن عين المتعصب عمياء , وقلبه منصرف عن قبول الحق . وهذا ابتداء المحاورة :

المرجئ القديم : - متسائلا – بلغنا أنكم تقولون إن عمل الظاهر لا يبطل الإيمان بتركه , وأن الشخص لو لم يأت إلا بالتصديق والنطق بالشهادتين – وترك العمل الظاهر من غير عذر – أنه مسلم ومن أهل الشفاعة يوم القيامة , ومع هذا تقولون إن الإيمان قول وعمل ؟



المرجئ المعاصر : نعم , نقول بهذا .

المرجئ القديم : هذا لعمري في القياس بديع !
كيف يكون العمل من الإيمان وفي الوقت نفسه تصححون الإيمان من غير عمل ؟
فواحدة من اثنتين :
إما أن تخرجوا العمل من الإيمان كما فعلنا نحن , وحينئذ يسلم لكم قولكم بصحة إسلام تارك العمل ويكون قولا مفهوما ومعقولا ,
وإما أن تدخلوا العمل في الإيمان فيبقى الإيمان موقوفا عندكم على صحة العمل كما هو مذهب السلف .

المرجئ المعاصر : معاذ الله أن نخرج العمل من مسمى الإيمان فنقع في بدعتكم , ولكننا نقول الإيمان قول وعمل , ونعني أن العمل جزء من الإيمان .

المرجئ القديم : جيد , ولكن أريد أن أفهم هل العمل عندكم جزء يتوقف عليه صحة الإيمان , أم جزء يتوقف عليه كمال الإيمان ؟
فإن قلتم جزء يتوقف عليه صحة الإيمان نقضتم قولكم بصحة إسلام تارك العمل الظاهر .
وإن قلتم جزء يتوقف عليه كمال الإيمان رجعتم إلى مذهبنا وقلتم بقولنا .

المرجئ المعاصر : وكيف ذلك ؟

المرجئ القديم : لأننا حينئذ نتفق جميعا – نحن المرجئة القدامى وأنتم المرجئة المعاصرة - على نجاة وصحة إسلام تارك العمل الظاهر , والفرق بيننا وبينكم أننا نجعل العمل خارجا عن مسمى الإيمان وأنتم تجعلونه داخلا في مسمى الإيمان , وهذا في واقع الأمر ليس خلافا حقيقيا بيننا وبينكم , لأننا متفقون على أن العمل الظاهر كمال في الإيمان , أنتم تجعلونه داخل الإيمان ونحن نجعله خارج الإيمان , وعليه فحاصل ما عندنا وعندكم أن الإيمان يصح بالتصديق والنطق فقط .
المرجئ المعاصر : كلا , يا أخا الإرجاء , نحن وافقنا السلف في قولهم الإيمان قول وعمل . وأنتم لا تقولون إن الإيمان قول وعمل . بل تقولون إن الإيمان قول فقط , ولذلك اشتد نكير السلف عليكم .

المرجئ القديم : يا أخي ! العبرة بالحقائق وليس بالشعارات الجوفاء .
السلف حينما قالوا عبارتهم الشهيرة " الإيمان قول وعمل " قصدوا الرد علينا , في تصحيحنا للإيمان من غير عمل , فالعبارة رد عليكم أيضا . إذ نقطة الخلاف بيننا وبين السلف في العمل . فالسلف يدخلونه في الإيمان ركنا أساسيا لا يصح الإيمان إلا به . أما أنتم فتدخلونه في الإيمان , نعم , ولكن لا تجعلونه ركنا أساسيا فيه . والدليل أنكم تصححون إيمان تاركه .
فأنتم في الحقيقة موافقون لنا لا للسلف . والفرق بيننا وبينكم ليس له تأثير على صحة الإيمان ؛ فنحن وأنتم متفقون على صحة إيمان تارك العمل .
أما الفرق بينكم وبين السلف فله تأثير على صحة الإيمان ؛ لأن السلف لا يصححون إيمان تارك العمل وأنتم تصححونه .
ولو كان مذهب السلف كما تقررون أنتم اليوم أن العمل الظاهر كمال في الإيمان وليس ركنا أساسيا في صحته وقبوله , لكان لنا معهم مقال وأي مقال , ولقلنا لهم : إذا كنتم تصححون الإيمان مع ترك العمل الظاهر , فلماذا كل هذه الحملة الشديدة علينا وقد اتفقنا وإياكم على أن العمل الظاهر ليس شرطا في صحة الإيمان , فما فائدة قولكم في إدخاله في الإيمان وأنتم تصححون الإيمان بدونه , فما نقوله نحن أقرب إلى الصحة من قولكم مع اتفاقنا على صحة الإيمان مع ترك العمل الظاهر . وليس ثمة خلاف بيننا وبينكم إلا في نقطة واحدة ليست ذات أثر , هي أننا نقول إن الشخص إذا جاء بالتصديق والنطق فإيمانه كامل . وأنتم تقولون إيمانه ناقص . وسواء قلنا بكمال الإيمان أو نقصانه فهو في نهاية الأمر مؤمن صحيح الإيمان . فإذا كان الأمر كذلك فلماذا كل هذه الضجة علينا وتسميتنا مرجئة ونحن وأنتم متفقون في حقيقة الإيمان أنه القول فقط , وأما العمل فتركه لا يبطل به الإيمان , بل يبقى صحيحا مقبولا . أما البحث هل هو كامل أم ناقص في هذه الحالة . فليس فيه كبير خطر ولا يستدعي كل هذا الإنكار علينا .
هذا خطابنا للسلف لو كانوا يقررون ويعتقدون ما تقولون به من أن الإيمان لا يبطل بترك العمل الظاهر .
ويا سبحان الله ! كيف خفي عليكم مذهب السلف في حقيقة الإيمان فذهبتم تبتدعون قولا جديدا وتنسبونه للسلف .
والأعجب من ذلك أن بعضكم ذهب يقرر أن السلف لهم في المسألة قولان : قول بتكفير تارك العمل , وقول بإسلام تارك العمل . وهذا الثاني هو حقيقة قولنا نحن المرجئة والسلف منه براء , ولكن ماذا نصنع بتخليطكم وضعفكم في التفريق بين مذهبنا ومذهب السلف ؟

المرجئ المعاصر : لا تُلبس علي يا أخا الإرجاء ! فالسلف سموكم مرجئة لأنكم أرجأتم – أي أخرتم – العمل عن مسمى الإيمان . أما نحن فلم نؤخره بل أدخلناه في مسمى الإيمان .

المرجئ القديم : نعم , أنتم أدخلتم العمل في مسمى الإيمان , ولكنه إدخال صوري لفظي , أما السلف فأدخلوا العمل في الإيمان إدخالا حقيقيا .
وهذه هي النقطة التي لا يفهمها إخواننا المرجئة المعاصرون , حيث يظن الشخص منهم أنه إذا قال " الإيمان قول وعمل " أصبح سلفيا في باب الإيمان مع أنه لا يقولها ولا يفهمها بالمعنى الذي كان عليه السلف .
وهذا يذكرنا بالقبوريين , حيث يظن الشخص منهم أنه إذا قال " لا إله إلا الله " فهو مؤمن موحد . ولا يدري المسكين أن أعماله الشركية تنقض كلمة " لا إله إلا الله " فالعبرة بالحقائق والمعاني ليست بالكلمات والمباني .

المرجئ المعاصر : ولكن .. إذا كنت تزعم أن السلف لا يصححون الإيمان من غير عمل الظاهر , فما هو الفرق إذن بين مذهبهم ومذهب الخوارج ؟
المرجئ القديم : هذا سؤال جيد , ينبغي طرحه وشرحه ؛ لأني رأيت بعضكم يخلط بين مذهب السلف ومذهب الخوارج في تعريف الإيمان , وعلى أساس هذا الخلط راح يرمي علماء السنة المعاصرين بأنهم على مذهب " التكفيريين " فهنا أصل ينبغي أن تفهموه وهو الأصل الذي تفرعت عليه البدع في باب الإيمان :
أن الإيمان شيء واحد غير قابل للزيادة والنقصان إذا ذهب بعضه ذهب كله .
اتفق على هذا الأصل الخوارج والمعتزلة والمرجئة . فالخوارج قالوا إن صاحب الكبيرة ( القاتل والزاني والسارق ... ) قد نقص شيء من إيمانه , والإيمان شيء واحد لا يتجزأ فذهب بذلك إيمانه كله . ومن هنا حكموا على صاحب الكبيرة بالكفر والخروج من الملة . أما المعتزلة فلم يكفروه صراحة بل قالوا هو في منزلة بين المنزلتين بين الإسلام والكفر . أما في الآخرة فاتفقوا مع الخوارج على أنه خالد مخلد في النار .
إزاء هذه المقالات الغالية وقفنا نحن المرجئة , فرأينا أن صاحب الكبيرة ليس كافرا كما تزعم الخوارج , والأدلة على ذلك كثيرة من الكتاب والسنة قد بينها وشرحها أهل السنة والحديث ونسفوا بها مذهب الخوارج والمعتزلة نسفا . في الوقت نفسه تحيرنا في ذلك الأصل الذي اتفقنا فيه مع الخوارج والمعتزلة أن الإيمان شيء واحد لا يتجزأ . فرأينا أن نتخلص من هذا الإشكال بأن نخرج العمل من الإيمان , وبهذا لا نقع في تكفير صاحب الكبيرة كالخوارج , إذ العمل لا علاقة له بالإيمان , وفي الوقت نفسه نبقى محافظين على الأصل الذين وافقنا فيه الخوارج أن الإيمان شيء واحد غير قابل للزيادة والنقصان .

المرجئ المعاصر : وماذا كان موقف السلف الصالح منكم تجاه إخراجكم العمل عن مسمى الإيمان ؟

المرجئ القديم : آه .. أقاموا علينا الدنيا ولم يقعدوها , وصاحوا بنا في كل الأقطار ونددوا بنا في جميع الأمصار , وقالوا لنا إنكم تخلصتم من بدعة الخوارج ببدعة أخرى لا تقل عنها قباحة , هي بدعة الإرجاء , ولم نزل منبوذين مطَّرحين عند السلف وأئمة الحديث حتى قال إمام معروف منهم , هو أبو مصعب المدني تلميذ مالك بن أنس : من قال الإيمان قول . يستتاب , فإن تاب وإلا ضربت عنقه . رواه عنه الترمذي في "جامعه" .
نعم , كان موقف السلف منا موقفا حازما جدا . لأنهم يعلمون جناية الإرجاء على الدين .
بعد هذه المقدمة التى لابد منها أعود لأبين لك الفرق بين مذهب السلف ومذهب الخوارج , فالسلف حينما خالفونا في أصلنا وقالوا بزيادة الإيمان ونقصانه , لم يكفروا صاحب الكبيرة , وقالوا عنه : مؤمن ناقص الإيمان .
وعليه فالخوارج يكفرون إذا نقص الإيمان , والسلف يكفرون إذا ذهب الإيمان .
والإيمان يذهب – عند السلف - إذا ذهب العمل .
فإن قلت لي : متى يذهب العمل ؟
أقول لك : إذا ذهبت أركان الإسلام العملية الأربعة ( الصلاة والزكاة والصيام والحج )
فإن قلت لي : متى تذهب هذه الأركان ؟
أقول لك : إذا ذهبت الصلاة .
ولهذا كان من فقه السلف أن الصلاة هي ملاك العمل , فمن تركها فقد ترك العمل , والأدلة الشرعية في الكتاب والسنة طافحة بتكفير تارك الصلاة . ولا يُعرف عن صحابي واحد القول بخلافها , بل جاء التابعون – وهم أعلم الناس بالصحابة – وحكوا إجماعهم على تكفير تارك الصلاة , كما قال عبدالله بن شقيق العقيلي التابعي الجليل رحمه الله : " كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة " . أخرجه الترمذي بإسناد صحيح .
وكان أئمة الحديث يردون على المرجئة بالأحاديث التي جاءت في كفر تارك الصلاة , كما فعل الإمام أبو داود في "سننه" حيث قال : باب في رد الإرجاء . وأورد فيه أحاديث ’ منها : حديث جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة " وهو حديث صحيح , أخرجه مسلم .
وهذا ظاهر أن أبا داود يريد أن يقول للمرجئة إن العمل له علاقة وثيقة بالإيمان وأن تارك العمل كافر, ودليل ترك العمل ترك الصلاة التي نص الحديث على كفر تاركها .
ومن الأدلة على أن العمل يذهب إذا ذهبت الصلاة حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال : قال رسول االله صلى الله عليه وسلم : " لتنتقضن عرى الإسلام عروة عروة , فكلنا انتقضت عروة تشبت الناس بالتي تليها , فأولهن نقضا الحكم , وآخرهن الصلاة " أخرجه أحمد وابن حبان واللفظ له .
وحديث أنس رضي الله عنه مرفوعا : " أول ما تفقدون من دينكم الأمانة , وآخره الصلاة " ( السلسلة الصحيحة 1739 )
قال الإمام أحمد : كل شيء ذهب آخره لم يبق منه شيء . ( المغني 4/350 )
فتأمل في هذا الفقه الأثري المبني على النص الشرعي , من هذين الإمامين الجليلين أحمد وأبي داود , وهو فقه من كان قبلهم من أئمة السنة , وليس كما يفعل المتأخرون من استدلالات مركبة , لم يعرفها السلف ولم تخطر لهم على بال ! كما فعلتم أنتم حيث ذهبتم إلى كتب الفقه واستخرجتم منها الخلاف في حكم تارك الصلاة تهاونا وكسلا , فجعلتم هذا الخلاف دليلا لكم على رد قول السلف في الإيمان . ولكي يسلم لكم هذا التشغيب العجيب ولاستدلال الغريب ذهبتم تستميتون في إثبات أن ترك الصلاة ليست مسألة إجماع عند الصحابة رضي الله عنهم وضعفتم أثر عبدالله بن شقيق لأجل ذلك , وهو أثر صحيح لا شك في صحته , ليس لكم غرض في تضعيفه غير إثبات تشغيبكم السابق في مسألة الخلاف في حكم تارك الصلاة . فهل أنتم أهل دليل واستدلال أم أهل تشغيب وجدل .

المرجئ المعاصر : لكن , اسمح لي هنا , هل تقول إن العلماء الذين لا يحكمون بالكفرعلى تارك الصلاة تهاونا وكسلا هم مرجئة ؟
المرجئ القديم : أنا أعلم أنكم تريدون إحراج خصومكم بهذا السؤال , وليس في المسألة إحراج ، بل هو سذاجة منكم , إذ يمكن للشخص منهم أن يقول لكم : عندي النص والإجماع على كفر تارك الصلاة وهو من أدلتي على كفر تارك العمل كما استدل به الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله , ونِعْمَ الإمام القدوة هو , وهذا يكفيني في ديني وعقيدتي . فلا تشغبوا علي بخلاف حادث بعد عصر الصحابة والتابعين . وهذا جواب سديد , ليس عندكم مجال للتخلص منه .
ويمكن أن يقال لكم أيضا : إن الخلاف في حكم تارك الصلاة إنما ظهر واشتهر بعد القرون الثلاثة المفضلة , وأن العلماء الذين لا يكفرون تارك الصلاة تهاونا وكسلا هم على قسمين : القسم الأول من يرى أن العمل كمال في الإيمان وهم جمهور أتباع المذاهب الفقهية من المتأخرين , فهؤلاء لا كلام لنا معهم لأنهم ينطلقون من أصل عقدي خالفوا فيه السلف . والقسم الثاني : وهم قلة , علماء على مذهب السلف في الإيمان لكنهم لم يجعلوا قولهم بعدم كفر تارك الصلاة معارضا للعقيدة السلفية في أن الإيمان لا يصح من غير عمل , هذا شيء لم يخطر لهم على بال, كما تفعلون أنتم اليوم , فحقيقة الأمر أنه ليس لكم سلف في هذا التشغيب . بل هي أغلوطة اخترعتموها لتقرروا أن العمل كمال في الإيمان .

المرجئ المعاصر : لكن نحن لا نقول إن العمل كمال في الإيمان , بل ننكر هذه الكلمة , ونقول العمل من الإيمان .

المرجئ القديم : أنكرتم الكلمة أم قبلتموها , فهي لازم قولكم , فالذي يصحح الإيمان مع ترك العمل الظاهر مقتضى قوله أن العمل كمال . فاتركوا عنكم التمويه والتناقض والتلاعب بالألفاظ . فلا تنكروا شيئا هو لازم قولكم ومذهبكم .

المرجئ المعاصر : ولكن نحن عندنا أدلة على صحة مذهبنا في أن تارك العمل ليس كافرا .

المرجئ القديم : أدلتكم عند التأمل هي أدلة المرجئة القديمة , إما نصوص عامة في فضل التوحيد وكلمة لا إله إلا الله , تعلقتم بمفهومها وتغافلتم عن منطوق نصوص أخرى تبين فقه هذه النصوص العامة .
وإما عبارات للسلف قصدوا بها الرد على الخوارج جعلتموها دليلا للمرجئة .
وإما عبارات مجملة أو قاصرة لبعض العلماء تشبتم بها ونسبتم لهم القول بالإرجاء وهم منه براء .
ثم عمدتم إلى أحاديث الشفاعة فنظرتم إليها نظر الأعور الذي ينظر بعين واحدة , فيرى جانبا وتخفى عليه جوانب أخرى . وتجاهلتم كلام وفقه أئمة السلف في هذه الأحاديث . وذهبتم تفترون الكذب على خصومكم السلفيين بأنهم لا يؤمنون بهذه الأحاديث , وهم أسعد بها منكم , قد فهموها على فهم سلفهم الصالح وليس على فهم المرجئة .
ولم تكتفوا بذلك , بل قصدتم إلى الإجماع الذي حكاه الشافعي حيث قال رحمه الله : " وكان الإجماع من الصحابة، والتابعين من بعدهم, ومن أدركناهم يقولون : الإيمان : قول وعمل ونية ؛ لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر ".
نقله عنه اللآلكائي وابن تيمية وعزواه إلى كتاب "الأم" , فرددتم هذا الإجماع بحجة أنه ليس مذكورا في الطبعة العصرية لكتاب الأم للشافعي , فعرف الناس أنكم قوم أهل تعصب وعناد , لا أهل بحث وإنصاف . وبعضكم أراد أن يثبت بزعمه أن هذا الإجماع لا يصح عن الشافعي , فماذا فعل ؟ ذهب ينقل عن الشافعي وغيره من الأئمة أنهم يقولون إن الإيمان قول وعمل . فتأمل في هذا الجهل المركب بمذهب السلف , وهو لو نقل عن هؤلاء الأئمة أنهم يقولون إن الإيمان قول فقط , لصح له ما يريد , لكن خفي عليه أنه لا تعارض بين عبارات الأئمة في هذا الباب وأن عبارة الشافعي التي نقلها عنه اللآلكائي وابن تيمية لا تعارض قوله في موضع آخر إن الإيمان قول وعمل . ولو شئت بينت لك ذلك وشرحته لك تفصيلا , لكن المقصود بيان ما أنتم عليه من تهافت , فارحموا أنفسكم ! وارحموا هؤلاء الشباب المنساقين خلفكم , جعلتموهم مرجئة بالتبعية والتقليد , حتى بلغنا أنهم تحيروا في شخص يقول : إن تطبيق الحدود يجب تعطيله في هذا الزمان, وإنه يجب فصل الدين عن الدولة ,وإنه يجب المساواة بين الرجل والمرأة في الإرث, وإنه لا ندري هل الآية التي تأمر بقطع يد السارق ليست من صنع الرأسماليين القرشيين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ,وإنه يجب علينا تأسيس الدولة المدنيةالعلمانية بدل الدولة الإسلامية , وإنه يجب تحريرالمرأة من قيود الإسلام.
فاختلف الشباب المنساقون خلفكم والمتأثرون بأفكاركم , هل يُحكم على هذا الشخص بالكفر أم لا ؟ لأنه يزعم أنه يصلي ويصوم ويخاف الله !
فواغوثاه بالله من هذا الإرجاء الصارخ !
هذا لأنكم تأبطتم قاعدة العذر بالجهل , وأصدرتم عفوا عاما وحكما شاملا بإسلام جميع القبوريين المشركين الذين لم تقم عليهم الحجة بزعمكم . وسحبتم قاعدة العذر بالجهل فشملت عند بعضكم الروافض والدروز والنصيرية . ورأيت بعضكم يعذر الملاحدة أهل وَحدة الوجود , فلا يكفرهم حتى تقام عليهم الحجة بزعمه !
فإذا كان هذا ديدنكم , فلا لوم على هؤلاء الشباب المساكين الذين توقفوا في كفر ذلك الزنديق الطاعن في القرآن وأحكام الله فيه .

المرجئ المعاصر : الله المستعان ! ولكن عودا إلى بحثنا , ثمة نقطة خلاف حقيقية بيننا وبينكم .
المرجئ القديم : ما هي ؟
المرجئ المعاصر : نحن نقول الإيمان يزيد وينقص , وأنتم لا تقولون بأنه يزيد وينقص . بل تجعلون الناس سواسية في الإيمان ؛ إيمان أفسق الناس كإيمان أتقى الناس .

المرجئ القديم : أما هذه فنعم , لستم على مذهبنا فيها , ولكن أيضا لستم فيها على مذهب السلف , فلا تفرحوا بها !

المرجئ المعاصر : كيف ذلك ؟

المرجئ القديم : سأشرح لك بعون الله تعالى .
السلف يقولون إن الإيمان ينقص حتى لا يبقى منه شيء , وأنتم تقولون ينقص حتى لا يبقى منه إلا مثقال ذرة . لا تقولون ينقص حتى لا يبقى منه شيء . فأنتم في هذه المسألة تنطلقون من أصلنا نحن المرجئة أن العمل ليس من الإيمان . فالسلف حينما قالوا لا يبقى منه شيء أرادوا العمل أي أن تارك العمل بالكلية قد بطل إيمانه بالكلية فلم يبق منه شيء يصح به شرعا , وأنتم حينما خالفتم السلف في مسألة العمل فصححتم الإيمان من غير عمل قادكم ذلك إلى مخالفة السلف في مسألة النقص هذه فصرتم تقولون إن الإيمان لا يذهب بالكلية بل يبقى منه شيء . تقصدون التصديق والإقرار . فانتهى بكم المطاف في هذه المسألة إلى قولنا وأصلنا . وكل من لا يكفر تارك العمل لا يمكنه أن يقول – كما قال الأئمة - إن الإيمان ينقص حتى لا يبقى منه شيء , لأنه سيكون عندئذ متناقضا , وهذا يؤكد لك أن كلام السلف في هذا الباب منسجم بعضه مع بعض فعباراتهم في مسألة العمل منسجمة مع عباراتهم في مسألة الزيادة والنقصان وأن من خالفهم في باب واحد ظهر تناقضه واضطرابه في بقية الأبواب.

المرجئ المعاصر : وما هي نصيحتك لنا يا أخا الإرجاء ؟

المرجئ القديم : نصيحتي لكم أن أمامكم الآن مسلكين وطريقين ممهدين :
إما أن تنضموا إلينا في تحقيق أن الإيمان هو القول فقط , وسوف نمدكم بما عندنا من شبهات ضد قول السلف , مع أن بعضكم لم يألوا جهدا في نصرة قولنا .
وإن أبيتم إلا التلون والتمويه فنصيحتي لكم أن تنفضوا غبار الإرجاء عنكم وتعودوا إلى مذهب السلف الصالح .
أما هذا الموقف المتذبذب بيننا وبين السلف , حيث ظاهر قولكم مع السلف , وباطنه معنا , تحملون شعار السلف " الإيمان قول وعمل " وتنصرون عقيدتنا , تتبرأون من الإرجاء وأنتم منغمسون فيه , وتنتحلون مذهب السلف وأنتم جاهلون به ومخالفون له , فهذا مالا نرضاه لكم يا إخوة الإرجاء .

المرجئ المعاصر : نعم , أنت محق يا أخا الإرجاء فيما قلت , ما أجمل الوضوح في العقيدة , إما مذهب السلف وإما مذهب الخلف , ليس هناك منطقة محايدة بين الفريقين . ولكن يا أخا الإرجاء ماذا أفعل بهذه الكثرة الكاثرة من الشباب السلفيين , هم على هذه العقيدة التى أثبت أنها تلتقي معكم في أصولكم الإرجائية ؟

المرجئ القديم : وما عليك منهم ؟

المرجئ المعاصر : هم أصدقائي وأحبابي يصعب علي خلافهم , وأخشى أن أصنف عندهم من الحدادية لو قلت بقول السلف وأنكرت قولهم , وأخشى أيضا أني لو قررت مذهب السلف وأنكرت مقالتهم أن يُشيعوا عني بأني أرمي الشيخ الألباني بالإرجاء , وقد رأيتهم أسقطوا – عند أتباعهم - عددا من طلبة العلم بهذه الفرية , فنحن يا أخا الإرجاء نعيش في امتحان حقيقي , كل من نصر قول السلف وأنكر مقالتهم آذوه وحاربوه وصنفوه حداديا , فالله المستعان على ما آلت إليه الأمور !

المرجئ القديم : لا تحزن يا أخي , نحن أيضا كنا نمارس إرهابا مماثلا ضد أهل الحديث بأن كل من خالف عقيدتنا فهو يطعن في الإمام الأعظم أبي حنيفة , وما كان هذا يثنيهم عن الصدع الحق , لأن العقيدة أغلى عندهم من أبي حنيفة , ولقد كانوا – والله – خيرا منا لأبي حنيفة ؛ لأنهم كانوا يبينون خطأه فيخففون من الحمل عليه , أما نحن فكنا ننشر خطأه ونتعصب له فيكثر أتباعه على خطئه وزلته رحمه الله
وإذا كان الشيخ الألباني رحمه الله – وهو عالم سلفي معروف , لا جدال في سلفيته ونصرته للسنة والحديث - له أقوال في هذا الباب معروفة , خالف فيها السلف , فهو ليس بالمعصوم , فلا يجوز لكم أن تتعصبوا له بالباطل , فترتكبوا حماقتنا القديمة مع أبي حنيفة .
ثم العجب منكم يا من تدعون السلفية , كم وكم تدعون الناس إلى اتباع الدليل ونبذ التقليد وطرح التعصب للرجال , ثم أنتم تسقطون في أول امتحان !
هذا وخصومكم من أهل السنة السلفيين الذين تنبزونهم ظلما وعدوانا بـ " الحدادية " أو " التكفيرية " يقولون : الألباني حبيب . لكن الحق أحب .
فماذا تريدون منهم فوق هذا الأدب والاحترام للشيخ الألباني .
أتريدون منهم أن يتخلوا عن عقيدتهم لئلا يخالفوا الشيخ الألباني ؟
أهذه هي السلفية التي تعلمتموها ؟
إن الشيخ الألباني نفسه لا يرضى بهذا , وكان كثيرا ما يردد : إن العلم لا يقبل الجمود . وأنتم جامدون على ما أنتم عليه من الغلط , على كثرة الردود عليكم والنصائح لكم , وفتاوى كبار العلماء التي صدرت في حقكم . فلا أعلم أكثر جمودا وتعصبا وعنادا منكم . فمن هو المخالف للشيخ الألباني على وجه الحقيقة ؟
وأما الرمي بالحدادية فهذا يا أخي من التنابز بالألقاب الذي نهى الله عنه في القرآن , فمن يرميك بالحدادية فإنه لم يتأدب بأدب الله في كتابه الكريم , فلا تبالِ به .
أما أصدقاؤك وأحبابك الذين تخشى مفارقتهم , فالله أكبر ! ما أرخص العقيدة عندك إذن , إذا كنت تقدم عليها الصداقات والعلاقات , فليست هذه محبة في الله , بل هذا التقاء على ما يلتقي عليه أهل الدنيا , وما أهون العلاقات التى تكون من أجل الدنيا ,
واعلم يا أخي أن هؤلاء الأصدقاء الذين يقاطعونك ويهجرونك ويصنفونك لكونك خالفتهم في مسألة أنت فيها على الحق ليسوا من أهل الوفاء والصدق الذين يحرص الإنسان على صداقتهم , بل هم قطيع من الغوغاء والدهماء كالذين تراهم على كثير من صفحات الأنترنت إذا وافقهم الشخص جعلوه فوق السحاب , وإذا خالفهم قالوا فلان الكذاب !
فمن كانت هذه أخلاقه فلا تحرص عليه . فهذا الصنف من الناس لا تأمن بوائقهم لسوء أخلاقهم وأفعالهم , كما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن )) ! قيل : من يا رسول الله ؟ قال : (( الذي لا يأمن جاره بوائقه !)) متفق عليه
فهذه نصيحتي لك يا أخي إذا أردت أن تكون من أهل السنة الغرباء , فاحمد الله الذي هداك للحق وأنار لك السبيل , فكم من شاب بائس ينافح عن الإرجاء ويعاند العلماء , وهو يظن أنه ينصر السنة . والموفق من وفقه الله .
" اللهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيل وَمِيكائِيلَ وَإسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّماوَاتِ وَالأرْض، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة، أَنْتَ تَحْكُمْ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيما كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. اهْدِنِي لَمِا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإذْنِكَ، إنّكَ تَهْدِى مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم"


تنبيه : ما قلته سابقا في الشيخ الألباني رحمه الله , هو موقفي الشخصي , وموقف كثير من العلماء وطلاب العلم , فإن جاء أحد من الغلاة وبدّع الشيخ الألباني رحمه الله , فلسنا مسؤولين عن شطحات الغلاة . وأبرأ إلى الله تعالى من كل شخص يتقصد الإساءة إلى محدث العصر وناصر الحديث الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله .


وكتبه
عبدالحميد بن خليوي الجهني
ينبع - السعودية
الخميس 21 شعبان 1435هـ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق